مطلع النور
لم يُعقب لنا التاريخ كثيرا من أنباء والدا النبى الشريقين ، ولكنه أعقب لنا ما فيه الكفاية لبيان أثرهما النفسانى فى وجْدان ولدهما العظيم .
فأبوه لم يكد ينجو من الموت ذبيحا حتى مات بعيدا ًعن زوجه التى فارقها عروسا ًوعن ولده الذى لم تره عيناه ؛ لكأنما وُجد هذا الفتى فى الدنيا ليعقب ذرية تريدها العناية لقدَر لاتُغنى فيه عناية الآباء . وُلد النبى صلى الله عليه وسلم بعد موت أبيه ، فأرضعته أمه ، وأرضعته ثويبة جارية عمه أبو لهب ثم عُهِد به إلى حليمة السعدية ولبث فى البادية إلى الخامسة أو قبلها بقليل ، وتكلم وجرى لسانه بالعربية الفُصْحى وهو بين بنى سعد ، فذاك فخره بعد النبوَّة إذ يعجب الصحابة من فصاحته فلا يرى عليه السلام عجبا فى فصاحة عربى نشأ فى بنى سعد . ولم يكد الصبى يطمئن إلى جوار أمه بعد عودته من البادية حتى فقدها وهما فى زيارة لقبر أبيه بالمدينة .ومن اليسير أن نعلم وقع هذه الفاجعة فى نفس الصبى اليتيم ، يتجدد مصابه فى أبيه فلا يكاد يبرح ضريحه حتى يقف على ضريح أمه مهجورا ًفى عرض الطريق؛ ولقد خلفت هذه الفاجعة فى نفس الصبى الصغير ما خلقت ولوأن نفس تتابعت عليها هذه الضربات فى صباها لسحقتها واستنزفت كل ما حوته من عطف وأمل ؛ فإذا وجبت لنا وقفة عند هذه الضربات التى تلقاها الصبى فأول ما نقف لديه أنها دلائل على القوة فى مكمنها وعلى الروح العظيم الذى تجلى بعد ذلك فى تاريخ بنى الإنسان ، كفؤا لأعظم الأعباء وأفدح الخطوب وتلى ذلك وقفتنا أمام العطف الذى أفادته النفس القوية من ضربات تسحق ما دونها وتنزف منها كل عطف وأمل ،وقد خرج الصبى من تلك الضربات القاصمة بالعاطفة الزاخرة التى تشمل العالمين : عالم الحياة وما بعد الحياة ، مذ كان أحب الناس إليه فى عالم آخر لاتبديه له هذه الحياة ، وجاءت بعثته إلى الناس كافة باسم الله الرحمن الرحيم . ولعله أول فتح أطل عليه من فتوح عالم الغيب فاستمد منه بعد ذلك قوته التى دان لها هذا العالم المشهود ، دنياه بعد ذلك أوسع من دنيا الناس وأعم من دنيا الأحياء، وحاجز الموت عنده برزخ تتصل به الدنيا والآخرة ويعيش فيه الحى والميت ، ولا ينتقل فيه الخلق فى دنياهم ليهلكوا اخر الدهر بل ليعيشوا آخر الدهر خالدين ... وجاء الأمر الإلهى بالدعوة إلى الإسلام ، وبدأت الرسالة المحمدية ..يتيم فى غير ذى ذلة ... عزيز فى غير قسوة .. يرث الكعبة ولكنه يهدم أربابها ، ويرث الأريحية من يقين بنى هاشم ولكنه يُغير مجراها ، ويرث العصبية فى أقواها ولكنه يقودها إلى عصبية واحدة تضم إليها العرب والعجم ، وتؤمن برب واحد هو رب العالمين ..
مهدت له الدنيا طريقا ولكنه هداها إلى غير الطريق فهما يتلاقيان ويفترقان : تمهيد من قوانين الكون وتمهيد من العناية الأزلية ، وحيث ينهض رجل واحد بما يأباه قومه ويأباه معهم أقوام زمانه ، فليست هى بإرادة الإنسان ولكنها إرادة الله ، وما هى بقدرة أحد أو آحاد ولكنها قدرة الخالق فيما خلق ، يوليها من يشاء حيث يشاء .
قراءة فى كتاب ( مطلع النور )
لعباس محمود العقَّاد
صَحَتْ الدنيا بعد طول ثُبات على ربيعٍ أولِ .. يُبشِّر الدنيا بمقدم النوربنبى مُرْسَل .. ربيع غيرالربيع ففيه تُصْقل الأرواح.. وتمتزج بعبير الإيمان فيُشرق الصَّباح .. وتبتهج النفوس وتحيى حياة غير الحياة .. والهادى يُنير طريقا ًبه تنقشع الظلمات